تجلّت مفارقات واضحة ما بين الثالث عشر من تشرين الأول من سنة 1990 وهذه السنة بالتبدّلات الاستراتيجيّة والعناصر الداخليّة المتراكمة على أرض لبنان. ففي ذلك الحين، اتفق الأميركيون والسعوديون والسوريون على اقتلاع رئيس تكتل "التغيير والاصلاح" العماد ميشال عون من قصر بعبدا عن طريق العنف والقسر. كانت المقدّمة الفعليّة لهذا الاقتلاع لمن لا يزال يتذكّر اغتيال الرئيس المنتخب آنذاك رينه معوّض لأنّه رفض ما أُملي عليه بضرورة القضاء على عون بالقوّة، فالرجل ما كان يحتمل ثقل الدم فوق كتفيه وقد عرف بأنّه رجل الحزم والحوار، وليس رجل القمع بالقوّة. قتل معوض وجيء بالياس الهراوي رئيسًا للجمهوريّة، وطلب منه تنفيذ الطائف بالدم بعد أن تم الاتفاق بين الأميركيين والسوريين على أن يتولّوا لبنان من باب مشاركتهم بتحرير الكويت. نفّذ الهراوي الأمر واحتلّ السوريون قصر بعبدا. وتمّ توقيع اتفاق الطائف برعاية سعوديّة سوريّة وتغطية أميركيّة، كحالة تسوويّة وليس كحالة تأسيسيّة تكوينيّة أعادت الاعتبار للبنان كوطن ودولة، وسرعان ما بان الطائف منطلقًا للقضاء على جذوة المسيحيين بمنطق الغالب لمغلوب سحق نفسه بنيويًّا، ومن ثمّ سحق من الآخرين سياسيًّا وواقعيًّا. الطائف وجد للمنتصرين بصيغة مذهبيّة طاغية، كشفت سيادة طائفة على أخرى ومذهب على آخر، وأمّا الضعيف أو المهزوم من الزاوية المذهبيّة والطائفيّة فله "أن يأكل بقولاً"، كما قال بولس الرسول.
ما تبدّل بين 13 تشرين الأوّل 1990 و13 تشرين الأوّل 2015، أي خلال خمس وعشرين سنة، آفاق اللعبة المرتبطة بأدوار القوى الخارجيّة من إقليميّة ودوليّة، والمحرّكة للقوى الداخليّة كأوراق في قبضتها وعلى طاولتها. ينطلق العماد عون من واقع جديد قوامه أن الرعاة للطائف الذين نأوا به خارجًا قد انكسرت شوكتهم بفعل اندراجهم في صراعات متفجرة فيما بينهم وهم من أسسوا لهذا الاتفاق، كالسوريين والسعوديين، كما أنّ الآحادية الأميركيّة قد ضمرت وبطلت بفعل اقتحام الثنائيّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف أرض الشام، وبالتالي فإن الاتفاق التسوويّ قد احترق منذ اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري... إلى أن ترمّد بالكليّة بالنيران المشتعلة في سوريا واليمن. الأحداث تبدّلت، قوى سقطت وأخرى انتصبت وسطعت، ليبدو الجنرال أمام رحلة جديدة ببعدها الاستراتيجيّ يتلمّسها من الرياح الروسيّة لهّابة وقبل ذلك بفعل الاتفاق الدوليّ-الإيرانيّ، وهو الاتفاق الاستراتيجيّ الكبير، الذي أحدث فجوة هائلة في النظام الإقليميّ والعالميّ، سمح للروس بأن يدخلوا منها ويمتصوّا عناوينها ويقتحموا من خلال المشرق العربيّ وعنوان الاقتحام القضاء الجديّ والجذريّ على الإرهاب.
تلك الرحلة أظهر عون عناوينها الداخليّة في الخطاب الذي ألقاه امام الحشود على طريق القصر الجمهوريّ. من الطبيعيّ أن ينطلق خطابه من ماضويّة الحدث باحترامه المقدّس للشهادة، لكنّه وضع خطوطًا جديدة مستندًا إلى المرحلة المستجدّة، ويقول بعض العارفين بأنّه منذ شهر تلقّى اتصالا من الرئيس السوري بشار الأسد دعاه فيه للصمود حتى أواخر تشرين الأول لأنّ الأمور ستتغيّر وتكون لمصلحته. لقد شدّد "بأنّ اليوم ليس مثل الأمس، وغدًا ليس مثل اليوم، مرحلة النضال الجديدة بدأت والتغيير سيبدأ عبركم، ولا شيء سمينعنا من التنزّه في شوارع بيروت بحضور أكبر". ووضع عناوين لذلك التغيير:
1-قانون انتخاب نسبيّ يحقّق العدالة.
2-انتخاب رئيس للجمهوريّة ليس دميةً، يناصر الحقّ، وليس حياديًّا يخفي رأسه ولا يشهد للحق، وليس وفاقيًّا (وقد قصد حتمًا توافقيًّا) يقسّم لبنان مناطق نفوذ ليرضي الكل، وهم يشربون دم اللبنانيين.
3-الاستمرار بدعم المقاومة كخيار استراتيجيّ في صراع الخير والشرّ، بخياره الثابت لأن يكون ضدّ إسرائيل وضد الإرهاب.
تلك العناوين في حقيقتها وجوهرها، هي محض خيارات وقناعات راسخة في شخصيّة الرجل وبنيته السياسيّة غير المنفصلة عن قراءته للمرحلة المقبلة. فلا مشرقة المسيحيين حالة عابرة بل هو عنوان استرايتجيّ وإيديولوجيّ متأصّل في قراءة التيار لواقع مسيحيي لبنان وسوريا والعراق والمشرق، كما أن سرقة حقوقهم في لبنان بدءًا من نقض الاتفاق الذي توصّل إليه العماد عون مع رئيس "تيار المستقبل" النائب سعد الحريري، عبر صيغة العميد شامل روكز لقيادة الجيش مقابل العميد عماد عثمان لمديرية قوى الأمن الداخلي، أمست مدى للنضال الكبير، وهو غير محصور ومحدود بـ"التيار الوطني الحر" بل إنّ "حزب الله" بدوره معنيّ به، وصولاً إلى ما قاله أمينه العام السيّد حسن نصرالله في حديثه بأنّنا لن نرضى برئيس لا هويّة له بل برئيس قويّ. وبهذا المعنى لن يبقى المسيحيون خارج السياق التكويني الجديد للبنان والمنطقة، أو مكسر عصا لأحد.
تلك العناوين هي مسرى النضال في المراحل المقبلة، الآخذ بالتصاعد رويدًا رويدًا مستندًا إلى المنطلقات الحاسمة في الجوار الشاميّ، ولكن بإرادة ذاتية وسياديّة صلبة. وفي لقاء حصل في إحدى قرى المتن الشماليّ، بين مسؤول كبير في "حزب الله" وعدد قليل من المسيحيين لفت المسؤول إلى ضرورة وحدة المسيحيين الهادفة بإنتاج قانون انتخابات يؤمّن النسبيّة والمناصفة، ومن ثمّ انتخاب رئيس قويّ لوطن رئيسه مسيحيّ ومارونيّ في عالم إسلاميّ.